صلاح الفاخرى

عن غرف الطوارئ والفيسبوك

البعض لا يعرف ان كندا بها مناطق لا تختلف كثيرًا في طبيعة ناسها ومستوى خدماتها الاجتماعية والصحية عن اي حي فقير في دولة نامية. واذا كنت طبيبا قادمًا لتوك من العالم الثالث وخاصة اذا كنت مثل العبدلله ("ازرق" ولكنتك قوية ولا تملك إيفادًا) فلا مفر من بدء حياتك المهنية هنالك عادةً في منطقة نائية على حافة الدائرة القطبية. وبعد أشهر من العمل وحيدا في عيادات الطوارئ تقضيها في مجادلة مدمني الحبوب المخدرة وتجنب لكمات السكارى ومحاولة تهدئة الأمهات الغاضبات من جراء طول الانتظار (احيانا 10 ساعات) والتفاوض مع الإخصائيين ليقبلوا تحويل مريض الي عنايتهم، بعد ذلك كله اما انك تفر اذا كان عندك خيار واما ان تحاول التعايش مع الامر الواقع. ولكنني لم اكن املك خيارا افضل وكنت قد تعبت من الفرار فقررت البقاء وعندها هداني الله الي وصفة للمحافظة على ما تبقى من صحتي العقلية:

صباح كل يوم في طريقي الى العيادة كنت اردد لنفسي: "اليوم سوف اقابل من سيغضب علي او يستهزئ بلهجتي أو شكلي او يتعالى علي او يرفض مساعدتي، في الاغلب دونما ذنب اقترفته، لان بعض الناس سيغضبون او يتعالون الخ مهما فعلتُ كنتيجة لما يجري في حياتهم وما يعتمل في صدورهم. ولانني لا استطيع التحكم في عواطف الناس وتصرفاتهم فان كل ما بوسعي فعله هو التحكم في عواطفي وردود فعلي".

وبعد كثير من الممارسة اصبحت عندما اقابل شخصا غاضبا لا أبهُ لغضبه كثيرا لان غضبه لا يأتي كمفاجاة وغالبا ما كان رد فعلي ان اقول "متاسف لانك اول (او ثاني ..) شخص يصب غضبه عليّ اليوم". وفي معظم الاحيان كان ذلك كافيا لحل الازمة لان معظم من يغضب منك يريد فقط ان يحس بانك تحترمه وتستمع لوجهة نظره ولا ترغب في اقصائه. البعض كان يتساءل ببعض الخجل "صحيح انني ثالث شخص يتعصب معك اليوم؟". البعض كانوا يريدون ان يغضبوك قصدًا كردة فعل على ضيقهم او احباطهم وهؤلاء ايضا سرعان ما يهدؤن اذا لم يستطيعوا إثارة غضبك. قلة كان يتمادون ويصلون الي التهديد بالعنف (في الغالب نتيجة هذيان او مرض) ومع هؤلاء تعلمت ان لا اسمح للمريض ان يكون بيني وبين الباب حتي يمكنني الانسحاب واغلاق الباب خلفي قائلًا "سوف ارجع عندما تهدأ قليلًا" بينما اقول للممرضة احضري "كوكتيل الهدوء" (serenity cocktail مزيج من الهالدول وميدازولام) لتغطية كل الاحتمالات.

تذكرت ذلك منذ يومين عندما حاول أحدهم أثارة غضبي على الفيسبوك بتهجمه على شخصيا وعلى عائلتي (التي لا يعرفها) نتيجة اختلاف في الرأي. وعندما قلت له انه لن يستطيع إثارة غضبي او اجباري على الرد عليه بنفس الاسلوب مهما فعل، قرر حظري!!! وعندها خطر لي ان الفيسبوك هو بمثابة عيادة طوارئ الانترنت يحفل بكل انواع البشر من العالم والمفكر والاديب والخلوق الي المغرض والافّاق وعديم الذمة ومرورا بمن ابتلاهم الله بامراض نفسية وعقلية. فاصبحت الان احضر نفسي لتصفحه مستخدما نفس التعويذة اعلاه. لانه شئنا ام ابينا يظل هذا الموقع هاما ومؤثرا في الحياة العامة وليس من الحكمة ان نتركه للمفسدين والمضللين ينفثون فيه سمومهم بدون رقيب. لكننا ايضا لا يجب ان نسمح لهم بجرنا معهم الى الحضيض عن طريق تمكينهم من اثارة غضبنا. فمن يقدر على ان يثير غضبك يملكك.