صلاح الفاخرى

عن القفص

عن القفص

بشار بن برد، اكبر شعراء عصره، اشتكت خادمته ربابة من انه لا يقول شعرا تستطيع فهمه. فنظم لها البيتين الشهيرين:

ربابة ربة البيت /// تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات /// وديك حسن الصوت

ويستخدم النقاد هذين البيتين كمثل على ان أكبر الشعراء قد يقول شعرا ركيكا مبتذلا. لكن أهميتهما عندي هو انني لا أستطيع قراءتهما دون ان اتذكر طرحًا ثوريًا حصل لعائلتنا في أواخر السبعينيات.

فذات يوم رجع الوالد حفظه الله يحمل قفصًا جديدًا براقا ووضعه في الشرفة واخبرنا ان لخ القايد قرر ان كل أسرة ليبية يجب ان تكتفي ذاتيًا من البيض، لذا فقد تقرر استقطاع جزء من مرتب كل موظف مقابل عشر دجاجات وديك. وطبعًا الدجاج يحتاج الى قفص لان معظم الناس يعيشون في شقق صغيرة لا حديقة ولا حوش لها. وطبعًا لابد من استقطاع ثمن القفص من المرتب.

وما زلت اذكر كم اعجبني القفص بطبقاته المتعددة المصنوعة من الألمنيوم الابيض وانابيبه الحمراء وسلة البيض وسلة الفضلات. في الواقع كان القفص اجمل من اي قطعة اثاث اخرى كنا نمتلكها. لكن القفص ظل خاويًا وكذلك ظلت اقفاص الجيران لان أحدا لم يستلم العشر دجاجات وديك الموعودة. ولم يكن ممكنًا بيع القفص لان كل مواطن كان يمتلك نفس القفص. وبعد عدة سنوات من التنقل والفك والتركيب لم يتبق من القفص شيء يذكر.

وانا لا ادري من غرس فكرة العشر دجاجات وديك في ذهن لخ القايد (بشار بن برد؟) لكنني متأكد انه حتى توفاه الموت لم يجرؤ أحد ان يخبره ان المشروع فشل ككل مشاريعه الاخري. وان الملايين التي صرفت عليه لو استثمرت في شركة دواجن دانماركية لكنا ما زلنا نأكل البيض مجانًا الى الان. لكن لخ القايد لا تهمه دراسات الجدوى الاقتصادية ولا فشل او نجاح اي مشروع لان عشرات الاف الشعراء والمغنيين والإعلاميين والمطبلين جاهزون لإقناع الشعب بنجاح كل افكاره العظيمة (البعض مازالوا مقتنعين حتى الآن).

وأنا أيضًا متأكد من ان البعض أستفاد من مشروع العشر دجاجات وديك كالاخوة الذين نظموا صفقة استيراد 200 الف قفص دجاج، والاخوة الذين كُلفوا باستيراد الدجاج ولهطوا الميزانية المخصصة لذلك ونسوا شراء الدجاج. ولكم أتمنى ان تكون هناك وسيلة لمعرفة من انبت ذلك المشروع الفاشل لحم اكتافه. لكن لا سبيل الى ذلك لانه لا توجد سجلات ولا حسابات لا لهذا المشروع ولا لآلاف المشاريع الأخرى التي أُهْدرت أرزاق الليبيين فيها. كل حيلتنا ان ندعو الله ان يحشر يوم القيامة كل مُخْتَلَسٍ فيما أختلس لكي نرى تلك الاقفاص البراقة تعج أخيرًا بالحياة.