صلاح الفاخرى

عن القراءة

طه حسين قال عن ادباء مصر في وجود بعضهم خلال مقابلة مسجلة انهم يكتبون ولا يقرأون. واللعين موشي ديان قال "العرب لا يقرأون". ولكن هذه التعميمات ليست كل الحقيقة. اعتقد ان المشكلة الاكبر والاعم (تنطبق حتى على غير العرب) هي انه حتى عندما نقرأ فاننا نختار ما لا يمكن ان يغير اراءنا او طريقة تفكيرنا مما يحول القراءة الى مجرد تسلية لا طائل منها.

هذه سنة الله في خلقه. نحن نحب المألوف ومن يشبهنا ويشاطرنا الرأي لانه طوال معظم تاريخنا على هذه الارض، المختلف وغير المألوف كان غازيًا مدمرًا لا يرجى منه خير. وطالبو المال والشهرة من المؤلفين يدركون ذلك. فالكثير مما يعد قراءةً في الغرب هو مثلا روايات دانيال ستييل الرومانسية التي تتبع نفس النمط عن الفتاة الجميلة الحساسة التي تلتقي الرجل الوسيم والمتغطرس. وفي البداية يكره احدهما الاخر لكن الرجل دائما يدرك قبل فوات الاوان أهمية الفتاة وروعتها ويعود طالبًا الصفح والسماح له بان يعاملها كاميرة لبقية حياتهما.

والكثير مما يقرأه العرب هو كتب ومقالات عن امجاد العرب وعظمة الحضارة الإسلامية وتفوق قيمنا واخلاقنا ولغتنا وادابنا ويمكن تلخيص استنتاجاتها بانه "ليس بالامكان احسن مما كان". وحتى عندما نقرأ فكرًا مختلفًا فانه في الغالب ترجمات وملخصات لأفكار فلاسفة فقدت معظم افكارهم اهميتها بعدما تبين قصورها. فمثلا معظم افكار ارستاتيل (ارسطو) عن الطبيعة والكيمياء وعلوم الحياة وحتى عن المنطق والاخلاق ليست لها قيمة فعلية غير كونها مرحلة هامة في تاريخ تطور الفكر. وحتى كتابات عمالقة مثل ديكارت وميكيافيلي وكانت (Kant) وهيجل وشوبنهاور وماركس وفريگي ملئ بافكار تبين خطلها. مثلًا نظرية ديكارت عن ثنائية الدماغ والعقل ودور الغدة الصنوبرية (pineal gland) في الربط بينهما تعد مضحكة اليوم رغم ان اغلبية البشر ما زالوا يصدقونها. ونظرية كانت عن الزمان والمكان كافكار مجردة لا وجود لها الا في الدماغ البشري تبين خطأها بعد ان اثبتت الاف التجارب والاختراعات (مثل الGPS) صحة نظرية اينشتاين والذي يعتبر الزمان والمكان ابعادا مختلفة لنفس الظاهرة الطبيعية وليس مجرد ظاهرة عقلية. ونظرية كانت عن الضرورات الأخلاقية (moral imperatives) ‪لا‬ تستقيم الا في عالم اوربي بروتستاني ابيض .ولكن افكار هؤلاء الفلاسفة تتخلل معظم كتابات المفكرين العرب المعاصرين مثلما تخللت افكار افلاطون وارسطو كتابات المسلمين القدامي. وانا لا اقول لا تقرأ كتب هؤلاء الفلاسفة وتلاميذهم ولكن لا تقرأها بدون فهم التطورات العلمية والفكرية المتسارعة التي استبدلت بها. وهنا تكمن المشكلة الثالثة وهي ان القليل جدا من الفكر العالمي المعاصر يترجم الى العربية لذلك فإن الاقتصار على القراءة بالعربية يؤدي الى خلق فكرة مشوهة عن واقع الفكر البشري. فالمترجمون والناشرون بشر ايضا ونادرا ما يسعون لنشر ترجمات لكتب لا تتفق مع افكارهم.

باختصار نحن لا نقرأ، وعندما نقرأ لا نقرأ ما يتحدى افكارنا او يغير طريقة تفكيرنا والنتيجة اننا منفصمون عن واقع الحضارة الإنسانية المعاصرة رغم كونها تحكم كل جوانب حياتنا. فنحن غرباء في عالم لا نفهمه ولا نقدر على العيش خارجه او بدونه. ولا عجب اذن اننا نستمر في الالتجاء الى القديم والمألوف، وفي التساؤل عن سر فشل كل جهودنا في تغيير واقعنا المؤلم، وفي التحسر علي ماضٍ نجح فيه اجدادنا لانهم كانوا أهم صناعه.

وقد يقول البعض ان الفكر كلام نظري لا يسمن ولا يغني من جوع. وهذا خطأ قاتل. فالدمار الذي لحق بكثير من الدول العربية التى انتهجت الفكر القومي الاشتراكي (العراق٫ سوريا، مصر، اليمن، ليبيا، الجزائر) كان نتيجة التطبيق الساذج لافكار هيجل وماركس وتلاميذهما والذين كانوا يمثلون تيارا فكريا قويا في النصف الثاني من القرن العشرين بين المفكرين والعسكريين العرب نتيجة هيمنة الاتحاد السوفياتي ودعايته. وكثير من حركات الاسلام السياسي استقت تطرفها من مفكرين سوقوا افكارا سياسية واساليب مستوحاة من التيارات الشيوعية ولا تختلف عنها سوي في محتواها الاسلامي. مثلاً حتمية قيام الدولة الاسلامية العالمية بدلا من الدولة الشيوعية العالمية، والجاهلية كوصف للنظم المعادية (بدلا من كونها مرحلة تاريخية انتهت بظهور الاسلام) والتي تقابلها المرحلة الراسمالية في الفكر الشيوعي، وتبرير استخدام العنف لسحق من يقف في طريق التغيير الحتمي الذي تقوده في الحالتين جماعة طليعية (الحزب الشيوعي او اللجان الثورية او حزب الله او حزب التحرير الخ). وذلك كله امتداد لنظرية هيجل ان التاريخ له غاية حتمية (وفق منطق هيجل الجدلي) وهي الوصول الي الدولة الالمانية والتي استبدلها ماركس بالمجتمع الشيوعي ولخ القايد بدولة الجماهير والنبهاني بالخلافة العالمية. فالافكار كالجينات تبقى مؤثرة لاجيال رغم بعض الطفرات (mutations) التي قد تعقد التعرف على اصولها.