صلاح الفاخرى

عن الشكوى (بدون لبن)

الشعب الكندي شعب محظوظ وسعيد بكل المعايير. لكن الكنديون لا يتوقفون عن الشكوى بمرارة من كل شيءٍ. يشكون ضعف الدخل وغلاء المعيشة وخاصة السكن والبنزين والطعام رغم انهم تاسع اغنى شعب في العالم. يشكون بطئ الخدمات الصحية وتردي مستوى التعليم رغم انهم من اطول الشعوب أعمارًا وان تلاميذهم يحلون في المرتبة الرابعة عالميًا في ادائهم التعليمي. يشكون من الفساد الاداري والسياسي رغم ان كندا تاتي ضمن احسن عشر دول في الاداء الحكومي والشفافية والديمقراطية. يشكون من تدهور الاخلاق وتفشي الجريمة رغم ان كل ابواب ونوافذ بيوتهم مصنوعة من الزجاج ونادرا ما يقفلونها. المقيمون البيض يشكون من المهاجرين والمهاجرون يشكون من المقيمين البيض والسكان الاصليون (ما نسميهم الهنود الحمر) يشكون من الجميع. يشكون من غطرسة مناطق كيبك وألبرتا وتورنتو ومن تدخل امريكا والصين وروسيا فى شئونهم الداخلية. يشكون من ارتفاع الضرائب والتعقيدات الإدارية وزحمة السير وجشع التجار ونفاق القساوسة وتنمر الشرطة وانحطاط الإعلام وانتشار الأسلحة والمخدرات وسوء الطرق وتأخر الرحلات الجوية والتلوث والتغير المناخي و رداءة الطقس (عندهم حق في المدة الاخيرة).

الشعب الليبي ايضا معروف بولعه الشديد بالشكوى كما يبدو من اي قراءة سريعة للمنشورات هنا او بالحديث الى مواطن ليبي. وبينما يبدو ان مبرراتنا للشكوى هي أكثر مصداقية بكثير من مبررات الكنديين لا انصحك من ان تحاول التقليل من شأن شكوي اي مواطن كندي. بالنسبة له ما يعيشه هي مشاكل حقيقية وكبيرة تنغص عليه حياته. فقط تصور ان أحدهم حاول التقليل من اهمية مشاكل ليبيا بالقول ان ربع سكان العالم يعيشون على اقل من دولار واحد في اليوم او ان نصفهم لا يمتلكون مراحيض في بيوتهم. الكنديون يشعرون بان مشاكلهم عويصة وجدية وكبيرة بنفس القدر الذي نشعره نحن تجاه مشاكلنا.

الفارق الرئيسي بيننا وبين الكنديين انهم لا يختمون شكواهم بـ"والله ما هو ساير منها" و "وين المجتمع الدولي والحكومة والبرلمان والقيادات الشعبية والجيش والشرطة والمثقفين والعلماء والفقهاء والأغنياء والمؤلفة قلوبهم" او بـ "يفرج علينا الله" و "خليها على الله". هذه العبارات لا توجد في قاموسهم الحضاري.

فاذا كثرت جرائم السرقة في حي ما اجتمع سكانه على اختلاف اعراقهم ومعتقداتهم ولغاتهم وشكلوا لجان عمل وبحثوا في اسباب المشكلة واعراضها وبحثوا عن حلول ممكنة فنصبوا كامرات مراقبة وأنوارا ساطعة وسيروا دوريات ونشروا معلومات عن منع الجريمة وصمموا أنشطة ترفيهية للشباب واشركوهم في كل القرارات والنشاطات. وهكذا كل مشكلة يتصدى لها جمع من المواطنيين سواءً كانت مشكلة سياسية او اقتصادية او إجتماعية او بيئية او صحية. (العبدلله بدأت عملي في البحث عن طرق لمنع سرطان البروستاتا بسبب مِنح مالية من جمعية غير حكومية هدفها هو مكافحة سرطان البروستاتا واحدة من الاف الجمعيات غير الحكومية الممولة بالكامل من تبرعات المواطنين والقطاع الخاص التي تقاوم هذا المرض او ذاك). وكلما كبرت المشكلة كبر حجم المجموعة التي تتصدى لها حتى اصبح بعضها احزابا سياسية وطنية ممثلة في البرلمان الفيديرالي والحكومة كحزب الخُضر المدافع عن البيئة. وفي رأيي هذا الحراك الفعال النابع من القاعدة وليس من القمة هو ما يحدد قدرة اي مجتمع على حل سيل مشاكل العصر التى لا تنتهي وتحقيق التنمية المستدامة والشاملة.

وبالطبع ليس كل منطقة في كندا تواجه مشاكلها بهذا الشكل. هناك مناطق فضلت أنتظار الشرطة او الحكومة لتحل مشاكلها. هذه المناطق ما زالت تنتظر تلك الحلول منذ تكونت كندا وحتى الان ولا احد يرغب في العيش او الاستثمار فيها.

لكن لماذ يحل معظم الكنديين مشاكلهم بهذه الطريقة بينما نفضل نحن ان يقوم شخص اخر (مدير او وزير او دكتاتور او ولد دكتاتور او رئيس حزب او حتى مستعمر اجنبي) بتقديم الحل لنا جاهزًا على طبق ولنستمر بعد ذلك فى انتقاده وذمه؟

هذا سؤال مهم وسوف احاول الإجابة عنه في مقالة قادمة لتجنب شكوى البعض من طول المقالة 😆.