صلاح الفاخرى

عن السيروتونين والقرع العسلي

في الصف الرابع الابتدائي كان مدرس مادة الزراعة بدينًا مدور الوجه حاد الطباع ولسبب لا أعرفه مغرما بالبكيوة/القرعة والتي كان يسميها القرع العسلي (كان مصريا). كان يجبرنا على كتابة طريقة تحضير مربى القرع العسلي عدة مرات ويحب مفاجأتنا بأسئلة عن ذلك خلال اي حصة حتى ولو لم تكن حصة زراعة وينفجر غاضبا اذا ما فشلنا في تذكر أي تفصيلة صغيرة. والى الان ما زلت اذكر وصفة مربى القرع العسلي بالرغم من انني لم اعملها قط (مادة الزراعة كانت مادة نظرية بحتة) ولم اذق في حياتي القرع العسلي.

ظاهرة مماثلة حصلت في ايام الدراسة في جامعة العرب الطبية. اذكر اننا كنا جالسين على البلاط محشورين في ممر بانتظار دورنا في الامتحانات الشفوية النهائية في الكيمياء الحيوية. وكان كل طالب يخرج من الامتحان متشنجا زائغ العينين وكأنه قد صفعه جن. ولم نعرف سبب ذلك الى ان رمى احدهم الينا بصفحات عن السيروتونين مزقت من كتاب كيمياء حيوية. وقررت حفظ ما فيها (والى الان ما زلت اذكر تحولات السيروتونين وكيف ينتقل في الدم وكيف يعمل في الأمعاء والدماغ الخ) ليتضح ان الممتحن الخارجي كان مغرما بالسيروتونين اللعين ولا يسال عن شيءٍ سواه. وبعد ان اجبت معظم أسئلته نظر الى بسرور واخبرني بان مشروع اطروحته في الدكتوراه (في المانيا) كان عن السيروتونين! وأدهشني انه لم يتوقف لحظة ليسأل اذا كان ذلك المستوى من التفاصيل مناسبا لمستوى الممتحنين او كان جزءا من المنهج الخ.

وهذه ليست امثلة معزولة. معظم التعليم بمناهجه واساليبه كان رهينة أهواء المعلمين وعلى رأسهم المعلم الاوحد (الاخ القايد) ويستهدف كل شيءٍ الا انتاج مواطنين قادرين على التفكير المستقل والعملي. فالتعليم لم يكن يستهدف توفير احتياجات سوق العمل لانه ليس هناك سوق عمل اصلا فاغلبية الشعب موظفون حكوميون يؤدون وظائف لا تقدم ولا تاخر. ولم يكن يستهدف أثارة الفضول والرغبة في فهم الكون لاننا نعرف كل اسرار الكون المهمة بحكم ولادتنا في بلد مسلم ولان الرغبة في الفهم ما تجيبش الا المشاكل والرغبة في التغيير ، ونحن جميعًا متفقون انه ليس بالإمكان احسن مما كان. فغرض المدارس عندنا هو تخريج مواطن يعتقد انه يعرف كل شيءٍ ولا يحتاج لان يتعب دماغه في فهم أي شيءٍ لم يكن جزءا من مقرر سنة رابعة. لكن الجهل المتخفي في ثياب العلم هو اخطر اسلحة الدمار الشامل كما يبدو واضحًا من حال بلدنا. وهو على المستوى الشخصي أيضًا أسرع واضمن طريقة للالتحاق بالرفيق الاعلى عن طريق حوادث السيارات والعنف والمرض والفقر وتسكير الراس.

وانا طبعا اتوقع ان يفسر البعض كلامي على انه غير متوازن ودعوة للعلمانية وترك الإسلام لانني لست شيخًا ولم اطرز كلامي بالحديث عن كيف سرق العالم كله العلم منا وتركونا بلاش وكيف ان الحل هو في ان نعيد عقارب الساعة الي العام 23 هجري وان ناخذ من الأوربيين فقط ما ينفعنا (السيارات والنقالات والأحذية الرياضية) ونترك ما عداه (المنهج العلمي الذي انتج كل هذه الأشياء) لانه العن ابو العلم اذا كان يتطلب الجهد والأمانة الفكرية والصدق في الحكم علي الاشياء وتعلم اي مفاهيم لم ندرسها في منهج الصف الرابع او نتلقاها من ابائنا. الي هؤلاء اقول مزبوط عندكم الحق و بالله كيف اكتشفتوا انني جزء من مؤامرة كبرى من طرف كل دول العالم الاخرى لصرفكم عن طريقة تفكيركم الحالية لانهم يحسدونكم على كل هذه العظمة ويخافون ان استمر بكم الامر على هذا الحال سوف تملكون الارض وما عليها بالإضافة الى امتلاككم للجنة ومافيها كما ورد في مطالعة سنة رابعة.