صلاح الفاخرى

عن التفكير #2

اذا رايت فأرا سمينا يعترض سبيل قطٍّ في وضح النهار فلا تعتقد انه يفعل ذلك من قبيل الشجاعة لانه في الواقع ينفذ عملية انتحارية، وككل الانتحاريين قد تم غسل دماغه (حرفيا في حالة الفأر وعلى يد اخطر مسممي الفكر اطلاقا: الطفيلي المعروف باسم التوكسوبلازما). التوكسوبلازما (Toxoplasma) يحتاج الى الوصول الى امعاء القط ليكمل الجزء الجنسي من دورة حياته ويبدأ في وضع البيض. لكن كيف السبيل الى ذلك وهو يعيش في جسم الفأر؟ بسيطة.. انه يصيب دماغ الفأر مسبباً رغبة لا تقاوم عنده في الخروج في وضح النهار للعب في الشارع المكتظ بالقطط ومزيلا خوفه الغريزي منها. وككل الانتحاريين يدفع الفأر حياته ثمناً رخيصا لاشباع رغبات قوة مسيطرة لا يعرفها هويتها ولا يفقه غاياتها ومصالحها. القط وان كان يبدو مستفيدا هو ايضا ضحية في هذه اللعبة ويدفع الثمن من صحته على المدى الطويل.(الاشخاص ضعفاء المناعة وأجنة النساء الحوامل ايضا يدفعون الثمن).

لكن زرع فكرة طفيلية لتحويل إنسان الى قنبلة موجهة يحتاج الى عملية أكثر صعوبة بقليل لان دماغ الانسان أكثر تعقيدًا بكثير من دماغ الفأر. في البداية يجب تحضير الدماغ لتقبل الفكرة. وأحسن طريقة لذلك هى اقناعه بانه لا يحتاج الى التفكير لنفسه لان كل الأجوبة معروفة ولأن التفكير قد يقوده الى التهلكة او على الاقل الى السجن او العزلة الاجتماعية. لكن الدماغ البشري عنيد لذلك يجب تشتيت إنتباهه (عن طريق شغله بالبحث عن أبسط إحتياجات الحياة من قوته اليومي ورغباته الجنسية الى تصاريح السفر وشهادات مختار المحلة والوضع العسكري) وعزله عن كل ما قد يدفعه الى التفكير (مثل مناهج التعليم الفعالة ومصادر الثقافة الجادة والاختلاط بالغرباء) وإقناعه بأن التفكير أقل أهمية لنجاحه في الحياة من قَصة شعره وأناقة ملابسه و خفة دمه ومهارته في التملق والتلون.

وفي نفس الوقت، يُقصفُ الدماغ في كل لحظة من وجوده بالفكرة الطفيلية ذاتها متخفية في قصص الأطفال والكتب المدرسية والأهازيج العاطفية ولافتات الطرق وبرامج الاذاعة وخطب المساجد والاعمال المسرحية والهتافات السياسية. ويُحاط بالاف الأدمغة المغسولة بنفس الفكرة، أدمغةٍ تكافئه بالثناء والصداقة كلما كرر نفس الفكرة وبالتوبيخ والتهديد بالاقصاء اذا ما أبدى اى شكٍ. وفي خلال بضع سنوات تصبح تلك الفكرة جزءا أساسيًا من اثاث الدماغ يستحيل نزعه لأن الدماغ نفسه لا يستطيع ان يتخيل عالمًا بدون تلك الفكرة، ويتحول حامله الى فأر مستعدٍ لارتكاب كل الفظائع بإيعاز بسيط من زارع الفكرة ولو كلفه الأمر حياته، ومحصنٍ ضد كل أنواع الأدلة المضادة لأنه لا يتردد في تكذيب عينيه وأذنيه اذا ما رأى او سمع ما يخالف الفكرة.

تذكر ذلك كلما حاول أحدهم أن يخيفك من استعمال عقلك بإي حجة كانت. فكما قلت من قبل لا يفعل ذلك الا من اُستعبد او من يحاول استعبادك. وحاولْ ما أستطعت أن تقاوم الرغبة في الفرار من كل ما يناقض أفكارك، وأن تقاوم التكلس الفكري بدرس كل مناحي الفكر الإنساني، وأن ترى كل الأفكار على حقيقتها: مجرد آراء قابلة للنقاش والتغيير بناءً على الأدلة والمعطيات. لا أحدَ يعيش بينا الآن يملك الحقيقة الكاملة، لا أحدَ على الإطلاق.