صلاح الفاخرى

عن الثورة #2

كما قلت سابقًا حال من يشكو من ان ثورة فبراير لم تحل مشاكله كحال من يشكو من ان ثورة البركان المجاور لبيته لم تصلح سقفه المتهالك. فثورات الشعوب بتعريفها انفجارات عفوية مدمرة تحصل نتيجة فشل تلك الشعوب في حل مشاكلها بالطرق السلمية. وهو ما يفسر لماذا لم يثور الإنجليز على ملوكهم في تاريخهم الحديث (لان برلمانهم رغم كل عيوبه سمح بالتغيير السلمي المدروس) بينما ثار اخوانهم الامريكان على نفس الملوك (لانهم حرموا التمثيل في ذلك البرلمان). وذلك ايضا يفسر لماذا لم تكن هناك الا ثورة امريكية واحدة (لانهم بنوا نظامهم السياسي عقب ثورتهم للسماح بالتغيير السلمي المدروس للحكومات ولكل شيءٍ اخر) بينما خلال القرنين الماضيين ثار كل جيل من المصريين على حكامه فقط ليعودا الى نفس الوضعية السابقة ممهدين للثورة اللاحقة في حلقة مفرغة لا تنتهي: الثورة تؤدي الى الفوضى وعدم الاستقرار والانهيار الاقتصادي التي تؤدي الى رجوع الحكم الاستبدادي التي تؤدي الى الثورة…

فلماذا تنجح ثورات في إنهاء الحاجة الى الثورات المتعاقبة وتفشل اخرى؟ هناك عوامل كثيرة منها الحظ والتدخل الخارجي ونوعية القيادات التي تظهر بعد الثورة وطبيعة مكونات المجتمع والتحديات التي تواجهه. لكن في رائي اهم العوامل هو درجة نضج المجتمع. فالفرنسيون لم يكونوا مستعدين لبناء دولة مؤسسات عندما قاموا بثورتهم الاولى ولذلك احتاجوا الى ثورتين شاملتين اخريين وعدة ثورات صغيرة ليصلوا الى نظامهم الحالي. فبعد أجيال متلاحقة من الثورات الدموية والدكتاتوريات والحروب التي لا تقل عنها دموية اقتنع عدد كاف منهم انه لا مناص من دولة المؤسسات التي لا يحصل فيها احد على كل ما يريد لكن لا يلجأ احد الى العنف للحصول على ما يريد. دولة مزودة بصمامات امان مختلفة مثل القضاء والبرلمان والصحافة والاتحادات العمالية وضمانات الحريات الشخصية بحيث لا يكون بوسع رجل او حزب واحد ان يحتكر صنع القرار وحيث يحدد المجتمع اتجاهه من خلال مخاض مستمر ومؤلم للافكار والاراء دون اللجوء الى الاجبار والعنف والعنف المضاد. ذلك التغيير الجذري في طريقة تفكير شعب ما يستغرق أجيالًا وقد لا يحصل ابدا فليس هناك ضمانات ان الشعب قد لا يندثر قبل الوصول الى درجة كافية من النضج الحضاري.

السؤال اذن اين نقف كشعب على سلم النضج الحضاري؟ في رأيي نحن ما زلنا في البداية. فنحن دولة حديثة العهد وهذه كانت ثورتنا الاولى (لانه رغم كل تأكيدات لخ القايد فان انقلابه مع جلود لم يكن ثورة شعبية). ورغم اننا جربنا كل مساوئ حكم الفرد المستبد ومساوئ الفوضى التي تعقب الثورة عليه فما زالت أغلبية ساحقة منا لا ترى مخرجًا سوى في تأمير هذا المستبد او ذاك الحاكم بامر الله. والى إن يوقن عدد كاف منا بعدم جدوى ذلك الاسلوب سنستمر في دائرة الاستبداد والثورات (كما قلت سابقًا: اذا لم تتشرذم ليبيا قريبًا وتختفي كدولة، اتوقع ثورة اخرى من الجيل الاتي الذي سيصل في العقد القادم الى نفس المختنق الديموغرافي الذي وصل اليه الجيل الحالي في العقد الماضي).

كم ثورة أخرى سنحتاج لنرتقي السلم الحضاري؟ الله اعلم. العقبات في طريقنا صعبة للغاية واهمها موروث حضاري استبدادي عميق جدا، و نزعة فردية قوية لا تسمح بالعمل الجماعى، وضحالة فكرية ممزوجة بغطرسة ونرجسية تمنعنا من التعلم من تجارب الاخرين، واقتصاد ريعي يشجع على النهب والسلب الفوري بدلا من التعاون وتحمل المسؤولية والتفكير على المدى الطويل، وموقع جغرافي في وسط دول تشبهننا في معاناتها وتطمح الى أستغلال ثرواتنا والتحكم في مصائرنا، واخيرا الاخطار المحدقة بالبشرية كلها كالتغير المناخي والنزاعات بين الدول النووية و التقنيات المستجدة (وكلها اخطار داهمة لكنها لم تظهر بعد على شاشات راداراتنا التي لا ترى ابعد من انوفنا).

هذا ما شاءت الأقدار. لكننا لسنا اول شعب يجد نفسه عالقا في حفرة عميقة حفرها بنفسه. ومن العجز ان يستكين المرء الى مصيره ويترك مستقبل أولاده في أيدي الأخرين. فحين ندرك بوضوح طبيعة وصعوبة التحدي، نتواضع في تقدير حجم قدراتنا كأفراد على تحقيق التغيير ولا نصاب باليأس والاحباط عندما يبدو ما نصبو اليه ابعد من ذي قبل. فنحن نفهم انه ليس بوسعنا سوى الاستمرار ببطء في احداث التغيير الفكري المطلوب عبر الحوار والنقاش حتى عندما يبدو الاخرون غير مستعدين للانصات لأنه ببساطة ليس هناك طريقة اخرى لتغيير الأفكار، و تغيير الافكار هو الحل الوحيد لان كل الحلول الاخرى وخاصةً الرجوع الى النظم الاستبدادية مهما كانت مسمياتها لا يفعل شيئا سوى تعميق الحفرة.