صلاح الفاخرى

عن نسبة الضجيج الى المعلومات

من خبرتي الشخصية في السفر الي معظم دول العالم (خارج أفريقيا) لاحظت انه كلما كثرت صور الزعيم المفدى (وصور ولي عهده الامين) كلما قلت اشارات المرور ويافطات اسماء الشوارع. في كندا مثلا لا تجد صورة واحدة لرئيس الوزراء في اي شارع او مكان عام (خارج موسم الانتخابات) ولكن يمكنك ان تقضي نصف ساعة في دراسة يافطات المرور ومعلومات الوقوف والخرائط وجداول مواعيد ازالة الجليد في شارع واحد. في وسط القاهرة لا يمكنك معرفة اسم شارع رئيسي دون سؤال لكن أينما نظرت فهناك وجه الزعيم الملهم متوجا شعاراتٍ مثل "يد واحدة تحت رعاية الريس" او "8 سنوات من الانجازات" (عادة فوق حفرة اعمال مجاري ضخمة في وسط الشارع تفتقر الي اي علامات تحذر من وجودها).

ولهذا اود ان اقترح مؤشرا جديدًا للفشل الحضاري: نسبة إشارات المرور الى صور الزعيم المعلم. فمثلا في ليبيا ايام الاخ القايد كانت هذه النسبة صفرا لان حتى الاشارات القليلة الموجودة كانت خاطئة أو غير مقروءة لانها ملطخة بالطلاء لتضليل طيارين الناتو.

وهذا المؤشر هو حالة خاصة من قانون عام في الحياة. كلما انخفضت نسبة المعلومات المفيدة من اجمالي البيانات المتبادلة كلما زادت الفوضى وانخفضت الانتاجية وزادت حدة الاختلافات والتناحر. لهذا السبب فإن كل شبكات الاتصال الالكترونية مصصمة لخفض نسبة الضجيج الي المعلومات باكبر قدر ممكن. بينما كانت كل المخاطبات الادارية في ليبيا مصممة لتحقيق العكس فمثلا ثلثا محتوى رسالة تعييني كان شعارات وهتافات ثورية وبعد قرأتها كنت مازلت في جهل مطبق بواجباتي وحقوقي الوظيفية ومرتبي الخ. ولا تقتصر المشكلة على المراسلات الرسمية فمثلا 70٪؜ من محادثاتنا اليومية هو أسئلة وأجوبة روتينية عن الصحة والاخبار والامور والاسرة والديار والجو او دعاء بالحفظ والتوفيق والسلامة وطول العمر. واذا سألت إي مواطن عربي عن شيءٍ ما فإنه في الاغلب سوف يعيد عليك نفس المعلومة (الخاطئة عادةً) بسبع طرق مختلفة مناقضا نفسه كل مرة. واكثر من 50٪؜ من نصوص معظم كتبنا (ومن ضمنها اكثر من 1000 كتاب الفها السيوطي) وقصائدنا ومقالاتنا (حتى مقالتي هذه) يمكن حذفه دون تأثير على المعنى على الاطلاق.

فنحن تربينا على الاسهاب والاطالة على يد اباء تستغرق رواية اقصر قصصهم عشية كاملة وذهبنا الى مدراس تقيم اداء تلاميذها بطول اجاباتهم واستمعنا الى زعماء يتحدثون لساعات عن كل شيءٍ من تفسير القرآن الى عدم ضرورة خلط الزيت والسمن في الطبيخة والى شيوخ يتحدثون خلال عقد قران عن خلق ادم وحواء وحادثة المعراج وفتح الاندلس. كما تعلمنا ان الله اختصنا باللغة العربية وزودها بـ 12 مليون كلمة (وفق تقدير مشكوك فيه) لكي لا نجد أنفسنا ابدا مضطرين للاختصار او لا سمح الله للصمت.

لكن المشكلة ان عصرنا المعقد يتطلب نقلا فعالا ودقيقا لملايين المعلومات بين ملايين البشر وذلك لن يحدث ابدا ما دمنا نتخاطب كما لو أننا في نجع يستقبل زائرا او اثنين في السنة. والإيجاز كما يعرف كل كاتب اصعب من الاطالة لانه سهل ان نكتب او نقول كل ما يخطر لنا بينما الإيجاز يتطلب دراسة معنى وغاية كل جملة للتأكد من دقتها وموضوعيتها وصحة منطقها وعدم مناقضتها لبقية النص. لكنه جهد مثمر لان كل قارئ ومستمع عرفته يفضل جملة واحدة مباشرةً وواضحة على كتاب ملئ بالتكرار والحذلقة اللفظية وعلى كل صور الزعيم الابدي ولافتاته التى تحاول اقناعه ضد كل الادلة انه يعيش في جنة يحسده عليها بقية البشر.