صلاح الفاخرى

عن نصف المجتمع

في التسعينيات تحصلت علي عقد عمل مع منظمة دولية مقرها القاهرة لترجمة تقرير بحثي الي الانجليزية. وقبل يومين من رجوعي الى بنغازي بعد انتهاء المهمة ذهبت الى البنك المصري الانجليزي لسحب اجري. وكانت المرة الاولى التي اسحب فيها مالًا من مصرف محترم لا تشبه فروعه اكشاك سندويشات الفاصوليا. وما زلت اذكر انبهاري ببهاء لون حزمة الدولارات التي ناولنيّها الصراف وباناقة تصفيفها وحتى برائحتها. وقبل مغادرة المصرف صرّيت المبلغ بعناية في جيب معطفي الداخلي محاذرا الا يراني احد وتركت البنك بهدوء متظاهرا بانني لا احمل اثمن ما امتلك وتذكرتي للانعتاق النهائي من الجماهيرية العظمى.

وبالرغم من انني لم ارى من اخوتنا المصريين الا كل خير سرعان ما بدأ عقلي في انتاج سيناريوهات مختلفة لكيف يمكن ان تطير دولاراتي: ماذا لو كان موظف البنك عضوا في عصابة متخصصة في نهب من يسحب مالا من البنك. ماذا لو كان بايع الفول والطعمية المتمركز في ناصية الشارع ايضا عضوا في تلك العصابة. ولِمَ ابتسم بواب العمارة العجوز عندما لحظني عند عودتي بينما لم يبتسم هذا الصباح. هل هو ايضا عضو في العصابة؟ ولم يحل الظلام حتى كنت مقتنعا بان نصف سكان البناية هم ايضا اعضاء في تلك العصابة الخطيرة ويعلمون بحملي الثمين وما هي الا مسالة وقت حتي يقتحموا علي باب الشقة. وقضيت الليل كله انصت لكل خرخشة باب او سعال على الدرج او وشوشة في غرفة نوم الجيران مقتنعا بان ساعة الصفر قد ازفت. وما ان لاحت تباشير الفجر الاولى حتى قصدت محطة حافلات ليبيا ووقفت في طابور التذاكر وكلي عيون تراقب كل حركة واذان تستمع لكل همسة وعندها لاحظت الحادثة التى هي سبب هذه المقالة. فامامي شرع مواطن خمسيني ضامر البدن ذو راس حليق واذنين بارزتين في قرص ظهر ومؤخرة وساقي المرأة البدينة الواقفة امامه. كانت تلبس حجابا فضفاضا مبلولا بالعرق و تقفز مذعورة يسارًا ويمينًا كلما هاجمها محاولة ان لا تلفت الانظار ولكن لا مناص لان الشبق على ما يبدو قد حول مطاردها الي ضبع شرسة. ولما قررتْ ترك الطابور واستدار ليتابعها بنظراته، رايت بكل وضوح وجهه الصفيق ينفرج عن ابتسامة انتصار وكانه قد عاد لتوه من تحرير عكا.

وعندها انتابني شعور عارم بالخجل والغضب من نفسي. فانا ما ارتحت لحظة مذ حملت دولاراتي القليلة لانني خفت ان البعض يريد ما احمل وها هنا كل نساء مصر والعرب يقضين اعمارهن في خوف و ذعر لان كل الرجال يريدون ما يحملن. وانا رجل اقدر على الدفاع عن نفسي وهن لم يُسمح لهن حتى بالتفكير في الدفاع عن النفس. وانا استطيع اخفاء او تمويه دولاراتي وهن لن يجنبهن عدوان الضباع حتى اعتمار طاقية الاخفاء. واذا ما سُرقت فعلى الاقل سوف القى بعض التعاطف بينما هن لا ينولهن الا الشك والتعزير.

ثم نظر الي الضبع وابتسم كان لسان حاله يقول "شفت بطولتي يا وله". ولما قلت له "عيب والله عيب" قال بصلافة "وهي واقفه في طابور الرجاله ليه؟" رغم انه لم يكن هناك الا طابور واحد من الرجال والضباع. ومن انعدام الخجل من وجهه الصفيق ادركت انه واحد من كثيرين ممن يحملون النساء مسئولية خسة اشباه الرجال من الضباع. تماما كما يحمل كل المتسلطين (من فلسطين الى ابوسليم) ضحاياهم مسئولية العنف الاعمى الذي يمارسونه ضدهم. وهنا الكارثة: نحن مجتمعات طبقية وكل طبقة تمارس العنف بدون رادع على الطبقات الاضعف منها والنساء يقبعن في قعر هاوية الاضطهاد ويقضين اعمارهن فى محاولات غير مجدية لتجنب كل العفن المتهاطل حول رؤوسهن اينما اتجهن. وهنا الكارثة الاخرى لا امل فى نهضة مجتمع اذا كان نصفه مستضعف مهمش و مرعوب من قبل نصفه الاخر. فذلك كمن يحاول السباحة وإحدى ذراعيه مربوطة الى قفاه.