صلاح الفاخرى

عن سائق الروميس و راس العكوز

مرة كنا نستقل سيارة روميس من مطار جربة في تونس الى طرابلس. ومذ تركنا المطار كان السائق الليبي مثال الاحتراف والمهنية رابطا الحزام منتبها لكل اشارة مرور مراعيا السرعة القانونية. وبعد حوالي نصف ساعة على نحو ذلك نظر اليه الدكتور الهندي الذي كان جالسًا بجانبه في المقعد الامامي وقال بعربية مكسرة: "انت فيه يسوق هكي في جماهيرية". ابتسم السائق ابتسامة صفراء وعاد في صمت إلي مراقبة الاشارات المرورية .

ولكن ما ان خرجنا من بوابة راس جدير حتى أنطلق سائقنا يسابق الريح الى طرابلس يزورق بين الشاحنات ويحلق فوق المطبات ويقتحم المنعطفات وكأنه تعلم القيادة علي يد إنتحاري من جماعة داعش.

وجعلني ذلك اتدبر سبب هذا التغير المفاجئ في تصرفات ذلك المواطن الليبي. من الواضح انه كان يخشى عواقب مخالفة قانون المرور فى تونس ولكن ليس فى ليبيا. وذكرني ذلك بالمعتقلات السياسية فى ليبيا: المكان الوحيد الذي تُتّبع فيه القواعد والتنظيمات بحذافيرها وحيث لا يمكن للواسطة أو الرشوة ان تسقيك شربة ماء. حتى اهلك ينسونك اذا دخلت المعتقل. مثل ذلك السائق في تونس، كل ليبي يرتعد خوفًا من مجرد التفكير في المساس بشخص الاخ القايد ولو بمزحة لكنه لا يخاف من عواقب إي خارقة اخرى لانه يعرف ان كل شيء مسموح به الا المساس بشخص الاخ القايد.

من الواضح إن الحكام العرب بمقدروهم فرض القانون وحماية الحقوق اذا شاؤوا. فلم لا يفعلون ذلك؟

يقول الجبرتي في تاريخه لمصر في اوائل القرن التاسع عشر "يحب المصريون الحاكم الفاسد، ليستعينوا بظلمه على أكل حقوق بعضهم البعض". فالقصة ليست بدعة مستجدة. هناك عقد خفي بين الحاكم الظالم وشعبه: تمكنونني وتدفعون عني اعدائي حتي لو كانوا اخوانكم وفلذات اكبادكم و ادع القوي فيكم ياكل حق الضعيف ولا احاسبكم على العطالة والسرقة والاختلاس في دولة "كل من في ايده اله". لذلك نادرا ما يجدي تغيير الحاكم لان خلفائه على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم سرعان ما يوقعون نفس العقد بعد ان يكتشفوا ان كل الحديث عن رفع المظالم واحقاق الحق هو مجرد غطاء لشريحة جديدة لتاخذ دورها في السرقة والاختلاس. والحاكم الذي لا يلعب هذه اللعبة لن يعمر طويلًا. ولعلك تذكر ان ثلاثة من أصل أربعة خلفاء راشدين (باجماع اهل السنة احسن من حكمنا في الـ1390 عاما الماضية والمثل الاعلى لكل الاحزاب الإسلامية السنية) قد قتلوا غيلة والرابع لم يعمر طويلا لكي يتمكنوا من اغتياله. ودليل اخر ان المصريين (اكبر الشعوب العربية تعدادا واطولها تاريخا) ثاروا علي حكامهم في القرنين الماضيين بمعدل ثورة كل 25 عاما (يعني كل جيل تقريبا) والنتيجة في كل مرة: كما كنت، ببكس كالصفير في وذن ميت او النفخ في قربة مقعورة. ودليل اخر هو ان الدول العربية التي نجحت الي حد ما في تحجيم الفساد (الإمارات وقطر بـCPI حوالى 65%[1]) فعلت ذلك عن طريق "شن" او تخفيف العنصر المحلي بنسبة 90%[2]. فالخلل ليس في مقبض العكوز فحسب كما قيل لنا، العكوز كله مسوس. وكل الشعارات الرنانة والخطب العصماء ودروس التاريخ المزورة لن تغير من ذلك. والى الثلة القليلة من الاشراف النظاف الذين لم يظلموا رغم القدرة ولم يسرقوا رغم الفرصة ولم ينافقوا ويصفقوا رغم الارهاب اقول : لكم رب كريم ولغفوة فى ظل حطبة بضمير نقي مطمئن لخير من الدنيا وما فيها.

[1] CPI: https://www.transparency.org/en/news/cpi-2021-middle-east-north-africa-systemic-corruption-endangers-democracy-human-rights [2] 90٪؜ من سكان الامارات وقطر اجانب