صلاح الفاخرى

عن سيبويه والاضطجاع

ايام سنة رابعة طب خلال تدريب سريري عن اخذ التاريخ المرضي لحالة مريضةٍ بالقلب طاعنة في السن سأل استاذنا الجليل د. احمد سوالم احد الطلبة "كيف تسألها عن الاورثوبنيا orthopnea (ضيق النفس عند الاستلقاء للنوم)". فقال الطالب بحذر "نقوللها يا حاجّة لما تضطجعي هل يسيرلك ضيق في التنفس". فرد عليه د. سوالم بكل جدية "صحيح لكن لازم تكون الحاجة بنت سيبويه".

طبعا سيبويه هو غني عن التعريف الي درجة انه اذا ذكر "الكتاب" بدون تحديد اعتقد الجميع ان المقصود كتابه الذي وثق فيه معظم قواعد النحو خلال نفس الفترة التي شاع فيها العمل بالفلسفة والمنطق وحاول فيها المفكرون المسلمون التوفيق بين مناهجها وبين عقيدة الدين الجديد وفقهه وحتى قواعد لغته. ونتج عن ذلك علم بالغ النضج والتفصيل (النحو) لا يقل تعقيدا عن الرياضيات المعروفة وقتها. يقول ابن حيان في رسالته "النحو منطق عربي والمنطق نحو عقلي".والعلاقة بين المنطق واللغة وطيدة في الفلسفة المعاصرة (مثلا في الفلسفة التحليلية السائدة الان في بريطانيا وامريكا) وفي الماضي كما يظهر من استخدام العرب لكلمة "منطق" (من النطق) لوصف علم قواعد التفكير (Logic) الذي طوره الاغريق.

لماذا اخبرك كل هذا؟ لأفسر لك لماذا نتعلم النحو كما نتعلم الاثباتات المنطقية والرياضية. مثلا عندما يطلب منك استاذك اعراب "يعجبني كونك مهذباً" ثم يؤنبك ويحملك مسؤلية انحطاط اللغة العربية والعرب لانك لم تذكر التالي: "يعجبني : فعل ماض مبني على الفتح و النون نون الوقاية و الياء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم . كونك : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره . وهو مصدر الفعل الناقص كان. والكاف ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر لفظاً وفي محل رفع اسم المصدر (كون) محلاً . مهذباً : خبر المصدر (كون) منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره" فالواقع ان استاذك مثلك تماما هو ضحية تلك الحادثة التاريخية. لو ظهر النحو في مرحلة لاحقة عندما انتصر التيار الاشعري المعادي للمنطق والفلسفة لكنا ندرس النحو كما ندرس كل شيءٍ اخر الان ("هيا هكي خود ولا سيب") وكما تدرس كل الشعوب الاخري لغاتها (هل ابدا طلب منك مدرس لغة اجنبية ان تحلل جملة ما تحليلًا منطقيا؟ او ان تتخيل ما حُذف وما قُدر او ما اعُرب وما بُني؟). والنتيجة ان قلة منا يستطيع ان يكتب او يتكلم العربية وفق قواعدها بينما يتكلم حتى اطفال الأميركيين مثلا الانجليزية وفق قواعدها. والسبب بسيط لان التحليل المنطقي للجمل مهما كان رائعا لن يتيح لك ان تتكلم لغةً بطلاقة. ذلك لا يأتي الا بالممارسة ومعظمنا غير قادر على ممارسة العربية الفصحى لاننا لا نتحدث بها حتى في حصص النحو والبلاغة.

وهذه ليست مشكلة هامشية فعدم قدرة معظمنا على التخاطب وفق لغة مقننة (عندما نستخدم الدارجة او العربية المكسرة) يجعل الحوار صعبًا والنضج الفكرى القائم على تبادل الافكار مستحيلًا. والاخطر من ذلك ان أحتكار فئة قليلة للكتابة والتخاطب يقلل من حجم انتاجنا الفكرى العلمي و يرسخ تهميش الأغلبية العاجزة عن استخدام لغة الدين والسياسة والاعلام لمصلحة القلة التي تحتكر كل هذه المجالات عن طريق سيطرتها على اللغة المستخدمة فيها. وهذا ما يفسر اصرار هذه الطبقة على الاستمرار في تعليم النحو باستخدام نفس الاسلوب العقيم لانه ليس من مصلحتها ان تتقن الجموع اللغة التي تمنح حاملها بطاقة الدخول الى نادي السلطويين. طبعًا كل ما قلته ضلال وعمالة وعلمانية وتقليل من قيمة الدين وامجاد العرب وتشكيك في القرآن الخ. هذا ما سيقوله أعضاء ذلك النادي. ولكن الواقع يظل انه الى ان نقرر يومًا ان اتقان الحديث بالعربية هو اهم من اراء سيبويه والفراهيدي و الدؤلي سوف نظل مضطجعين فى انتظار حلول سحرية تسمح لنا بالعيش فى عصر تسارع التطورات بينما نتشبث بكل فكرة خطرت ببال احد اجدادنا.